المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
كنا قد وقفنا عند أدلة زيادة الإيمان ونقصانه، ومن ذلك حديث نقصان عقل المرأة ودينها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم علة نقص العقل والدين في النساء بقوله: ( أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين )، وهو ما عبر عنه الشارح رحمه الله في المتن بقوله: (وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين).
قال الشارح: [وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين ) والمراد: نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السموات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعانٍ أخر غير الإيمان؟
وكلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً، ومنه: قول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: [ من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقص ]، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول لأصحابه: [ هلموا نزدد إيماناً ]، فيذكرون الله تعالى عز وجل، وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول في دعائه: [ اللهم زدنا إيماناً، ويقيناً، وفقهاً ]، وكان معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يقول لرجل: [ اجلس بنا نؤمن ساعة ]، ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، وصح عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه أنه قال: [ ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم ] رواه البخاري رحمه الله في صحيحه ، وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق ]
اهـ.
بدأ الشارح رحمه الله بحديث نقصان الدين؛ لأنه صريح في إثبات النقص؛ وبعض العلماء من السلف توقف في إثبات النقص، ولم يشك أحد منهم أو يتوقف في إثبات الزيادة؛ لأنها جاءت صريحة في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  1. دلالة حديث شعب الإيمان وحديث الشفاعة في الخروج من النار على زيادة الإيمان ونقصه

    يقول: (ونظائره كثيرة)، ثم قال: (وحديث شعب الإيمان) أي: أنه ذكر حديث نقص الإيمان، وحديث كمال محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث شعب الإيمان، وقد تقدم الحديث عنه، وفيه الدلالة أيضاً على أن الإيمان يزيد وينقص، قال: (وحديث الشفاعة: وأنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) وقد تقدم ذلك مبسوطاً وموضحاً في باب الشفاعة، والاستدلال به واضح، فمن الناس من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، ومنهم من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، ومنهم من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة، وهذا هو يقابل الشعيرة في الروايات الأخرى، ويقابل الذرة هنا بالوصف اللغوي، وهؤلاء هم آخر من يخرج من النار، والنار دركات، فهناك من يخرج قبل ذلك، أي: قبل هذه الشفاعة الأخيرة، وهنالك من يعذب في الموقف في عرصات القيامة، وهناك من يعذب في قبره فقط، وهناك من يعذب في الدنيا بمصائب الدنيا ويطهر فقط.
    فهكذا درجات الناس وتفاوتهم في العذاب، وفي حصوله، وهذا بمقتضى إيمانهم، فبمقدار قوة الإيمان يقل التعذيب، وبمقدار كثرة المعاصي ينال صاحبه العذاب إما في القبر، وإما يوم الحساب، وإما أن يمتد إلى النار، وقد يطول مكثه في النار أو يقصر، وآخر من يخرج هو الذي على هذا الحد الذي ليس وراءه شيء من الإيمان، وهو من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، كما جاء ذلك في الصحيح.
    إذاً فهذا دليل واضح على تفاوت أهل الإيمان في الإيمان، وكتاب الإيمان في صحيح البخاري رحمه الله هو من أفضل الكتب التي تبين عقيدة أهل السنة والجماعة ، فهو يأتي بترجمة الباب، ثم يأتي بأقوال السلف، والأحاديث المعلقة، ثم يأتي بالأحاديث المسندة الدالة على هذا، فرضي الله تعالى عنه.
    قال: (فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعانٍ أخرى غير الإيمان؟!) وهذا قول المرجئة ، ويشاركهم فيه أيضاً الخوارج ؛ فإنهم يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لكن بتفسير ومقتضيات ولوازم أخر، والمقصود هنا هم المرجئة ، وهذا ما ينسبه المرجئة إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، كما ذكرنا ذلك من كتاب العلم والمتعلم ، فإنهم يقولون: إنه يصرح بأن إيمان الواحد منا كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا لا شك أنه باطل، ولا تصح نسبته إلى الإمام أبي حنيفة ؛ وإن كان لازم ذلك الكلام هو هذا، ولكن لا يصح أن ينسب ذلك إليه.
  2. منزلة محبة رسول الله من الدين والإيمان

    ثم ثنّى على ذلك رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين )، رواه الإمام أحمد والشيخان وغيرهم، فهذا الحديث يدل على أن العبد لا يكمل إيمانه كما قال الشيخ هنا: (فالمراد: نفي الكمال)، فلا يكمل إيمانه، ويكون مؤمناً حقاً إلا إذا كانت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بهذه الدرجة، وهذا لا يكون لكل أحد من المؤمنين، فكثير من المؤمنين يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعادل منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبه منزلة أحد من العظماء والكبراء والمتبوعين أو المطاعين إلا أنه يحب ولده أو والده أكثر منه صلى الله عليه وسلم، أو يحب نفسه أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقد قال عمر رضي الله عنه: ( يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر ! قال: فوالله يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، قال: الآن يا عمر )، الآن بلغت حقيقة الإيمان وكمال الإيمان، فهذا هو معيار التفاضل عند المؤمنين، وهو من أكبر وأهم المعايير.
    ومحبة الله سبحانه وتعالى تقتضي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما متلازمان، فمن أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت محبته لله ورسوله بهذه الدرجة؛ حتى يقدم ذلك على حب الأهل والوالد والولد والناس أجمعين؛ فهذا قد بلغ الغاية العظمى في الإيمان، ولازم ذلك ومقتضاه أن يقدم ما أمر الله به وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم على هوى النفس، وعلى شهواتها وعلى رغباتها وحظوظها، وعلى هوى ورغبة كل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمحبة كما تقدم هي أساس كل الأعمال وكما تقدم أيضاً في شرح حديث: ( من أحب لله وأبغض لله، ومنع لله وأعطى لله، فقد استكمل الإيمان ) فالمحبة أصل حركة القلب كما قال الشارح: (ومعناه: أن الحب والبغض أصل حركة القلب)، هذا أصله، فمن كانت محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنده بهذه المنزلة فلا يتحرك قلبه إلا بما يوافق دين الله وما جاء من عند الله وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن هنا لا بد أن تزكوا وتطهر أعماله الظاهرة والباطنة؛ لأنه أخرج من قلبه كل شيء يخالف حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
    ومن هنا كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يتنافسون في هذا، ويتسابقون ويتفانون في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهل عروة بن مسعود لما جاء في صلح الحديبية وابن أخيه المغيرة بن شعبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بالسيف، ومعه من كان معه من أعيان قريش فتعجبوا؛ لأنه كان من ثقيف، وقال: والله لقد رأيت الملوك -وكان هو وبعض أشراف قريش ممن يذهبون إلى الملوك ويرونهم في الشام وغيرها- فما رأيت أحداً يحب أحداً كمحبة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد؛ فقد رآهم يتسابقون لأخذ ما فضل من وضوئه صلى الله عليه وسلم، وما يتساقط من شعره، كما فعلوا ذلك لما اعتمر صلى الله عليه وسلم، ورأى الهيبة والتوقير والتعزير والعظيم الذي لا نظير له في الدنيا على الإطلاق؛ لأن الذين يحترمون الملوك والسلاطين أو القياصرة والأكاسرة هم مرغمون، ثم إن هذا مقتضى عملهم الدنيوي، وما يظهر من هذا إنما هو بمقتضى العادة أو المحبة الدنيوية، وأما هؤلاء فإنهم يفعلون ذلك عن رغبة، ويفعلونه طواعية، ويبتغون بذلك وجه الله، والتقرب إلى الله تبارك وتعالى بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ولهذا لما ذكر الحسن البصري رحمه الله تعالى حديث الجذع الذي كان رسول الله يخطب عليه ثم تركه فحن الجذع كما يحن الفصيل إلى أمه، أي: وكأنه حيوان، بل وكأنه إنسانٌ سميعٌ بصيرٌ ناطقٌ يحس ويفكر، وقد فقد أعز وأغلى حبيب، فقال الحسن : [ أيها الناس! هذا حنين الجذع وهو جماد فكيف لا تشتاق قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ]، وهذا من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم كما قال العلماء، فالمسيح بن مريم عليه السلام أعطاه الله تبارك وتعالى آية وبرهاناً على صدق نبوته وهي: إحياء الميت، والميت هنا قد كان حياً ثم مات، وسوف يحييه الله تبارك وتعالى مرة أخرى؛ فمن شأن الميت أن يعيش؛ لأنه كان قبل ذلك حياً وسيرجع حياً، فالحياة بالنسبة له أمر عارض لا تستغرب بمقدار ما يستغرب أن يتصرف الجماد الذي لا حياة فيه تصرف الأحياء؛ لأن الجذع لا حياة فيه، وكذلك الحصى الذي كان يسبح في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجر الذي كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الجمادات ليست مؤهلة بذاتها وبطبيعتها للحياة، ولا للنطق، ولا للتعبير عن المشاعر أو الأحاسيس، ومع ذلك كان منها ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا من أعظم الآيات والبراهين الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، فهو نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.
    فالمقصود: أن الإنسان بمقدار محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يرتقي في درجات الإيمان ومنازله، وبمقدار نقص هذه المحبة يكون نقصه في ذلك، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
  3. قاعدة في النصوص التي يأتي فيها نفي الإيمان

    ويريد المؤلف هنا أن يضع قاعدة عامة فيما جاء من الآيات والأحاديث التي يأتي فيها نفي الإيمان، وإطلاق أنه (لا يؤمن)، والقاعدة فيها -وهي قاعدة عظيمة-: أن كل نص جاء فيه نفي الإيمان فإنه يدل على وجوب عمل أو تحريمه، أي: أن من نفي عنه الإيمان قد ترك واجباً، أو فعل محرماً، ثم بعد ذلك ننظر في هذا الواجب: هل يقتضي نفيه الخروج من الدين أو لا يقتضي ذلك، وهذه مسألة أخرى، وإنما الغرض من النص هو إثبات أن هذا الفعل واجب إذا نفي الإيمان عمن لمن يفعله، أو أن هذا الفعل محرم إذا نفي الإيمان عمن فعله، وليست هذه القاعدة مطلقة، فلا يقول خارجي: إذا وجدنا حديثاً مثلاً فيه: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، أو: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه.. ) الحديث؛ فيقول: من لم يكن كذلك فقد كفر وخرج من الملة، فلا يحق للخارجي أن يستشهد بكفر الزاني أو ناقص المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه النصوص؛ لأنا نقول: إن هذا النص يدل على أن المحبة واجب وفريضة، ويدل على أن الزنا حرام وكبيرة وفاحشة، هذا هو المراد من النص، وأما كون فاعله يخرج من الملة أو لا يخرج فلا يدل عليه مجرد النفي، بل لا بد من قرائن أخرى كأن يكون في النص ما يدل على ذلك، كقول الله تبارك وتعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65] فهذا القاعدة منطبقة في هذه الآية، وهي تدل على أن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض وواجب متعيَّن، ومن ترك تحكيمه صلى الله عليه وسلم يكون كافراً؛ لأن الآية رتبت الدرجات فجعلتها ثلاث مقامات: التحكيم، وهذا مقام الإسلام، ونفي الحرج، وهو مقام الإيمان، والتسليم، وهو مقام الإحسان، وما قبلها من السياق يدل على ذلك.
    فهذه الآية وهذا الموضع أصل في أصل الدين وأساسه، وتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصل الدين وأساسه، وأما زيادة واكتمال محبته في القلب فهذا من كماله؛ أي: من كماله الواجب، فهو لا يكمل ولا يحصل الكمال إلا بمحبته صلى الله عليه وسلم، ثم كلما كمل في ذلك فهو أكمل له حتى يستكمل الكمال الواجب والكمال المستحب.
    فالمحبة في ذاتها -أي: محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ليس فيها غلو، وإنما يكون الغلو في خروج المحبة عن معناها وعن مقتضاها، فـ مهما أحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعد غالياً بمجرد المحبة، وأما أن يخرج العبد عن مقتضى هذه المحبة فيظن أنه صلى الله عليه وسلم إله، ويرفعه عن مرتبة البشرية التي جاءت صريحة في القرآن، أو يطريه كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم؛ وقد نهى عن ذلك صلى الله عليه وسلم، أو يتخذ قبره عيداً وقد نهي عن ذلك، وهذا من فعل اليهود و النصارى إلى غير ذلك؛ فهذا ليس من المحبة، وإنما هو خروج عن مقتضى المحبة الحقيقي، فهذه القاعدة هي الأصل.
    وبعد ذلك ننظر إلى حكم المخالف: فإما أن يكون قد ترك ركناً أو أصلاً من أصول الدين؛ فيكون كافراً، وإما أن يكون قد ترك واجباً؛ فيكون مرتكباً لكبيرة، وكذلك إذا فعل كبيرة فهو مرتكب لكبيرةٍ.